حتى لا يكون العنف قدرا محتوما لكرة القدم

منذ عقود، وبفضل تطور وسائل الإعلام، أمكن التعرف على أحداث عنف متعددة في الرياضة، أغلبيته الساحقة مرتبطة بكرة القدم، عنف تختلف درجاته بين مجرد اللفظي، المتجلي في السب والشتم والقذف والتهديد، وهو المنتشر بكثرة لدرجة قد لا تخلو منه أي مباراة في كل بلدان العالم الثالث لحد الآن وغير قليل من الدول المتقدمة، لدرجة أن الكثيرين يستنكفون عن الذهاب إلى الملاعب، وحدهم أو برفقة قريب أو صديق، تفاديا للحرج، ويفضلون الاقتصار على المتابعة عبر وسائل الإعلام، وخصوصا التلفزة التي صارت توفر اختيارات متنوعة ومغرية، وقد يصل هذا العنف إلى أقصى درجاته حين يكاد يؤثر في العلاقة بين بلدين ويهدد السلم بينهما، مثلما وقع بين بلدين من أمريكا اللاتينية هما السالفادور والهوندوراس،سنة 1969، إلى ما قد يمس الجماعات في صحتها وحقوقها البدنية وفي مقدمتها حق الحياة، مثلما وقع في بعض الأحداث المؤسفة، أخطرها في ملعب « هيسل » ببلجيكا سنة 1985 تسبب فيها « هوليغانز » من جمهور فريق ليفربول المرافق له في لقاء كأس الكؤوس الأروبية أمام فريق يوفي الإيطالي، وعرفت سقوط 39 قتيلا وحوالي 400 جريح من جمهور اليوفي، إضافة إلى خسائر مادية في الملعب وفي مصالح بريطانية بإيطاليا من طرف جمهور اليوفي، وتطلبت اعتذارا رسميا من الملكة إليزابيث الثانية، ومتابعات عديدة، وبعدها وقعت أحداث ملعب « شيفلد » بإنكلترا سنة 1989 وخلفت 95 قتيلا ومئتي جريح، لأسباب مرتبطة بحالة الملعب وتحمله أكثر من طاقته القصوى، مما استدعى تشريعات وقائية أمنية ومعمارية بالنسبة للملاعب لضمان أقصى درجات الأمن…

un-ballon-de-soccer-punch-r-duire-la-violence-li-e-au-football_2-2.jpgبعدها جاءت أحداث إيطاليا في بداية الموسم الرياضي 2006-2007، عقب مقتل مشجع بواسطة طلقة مسدس شرطي، طلقة غير دقيقة التوجيه، كان القصد منها إصابة عجلة سيارة مشجعين في حالة شغب لتتوقف من أجل المراقبة والضبط،، وذلك قبل انطلاق المباراة ببضع ساعات، بباحة للاستراحة للطريق السيار بمدينة أريتزو، لكن أصابت الرصاصة مشجعا لفريق نادي لازيو في السيارة فقتلته، مما أجج غضب أصدقائه وباقي مشجعي الفريق الذين كانوا في طريقهم إلى ميلانو لمواجهة فريق الأنتير المحلي، برسم البطولة الإيطالية.
blesse.jpg

وساهمت وسائل الإعلام في نشر الخبر قبل انطلاق مباريات البطولة، هذا الخبر تم تأويله على أنه عنف من الشرطة غير مبرر ضد المشجعين، مما وسّع التضامن ليشمل جماهير محبي عشرات الفرق الإيطالية الذين قرروا الثأر للمشجع القتيل، حيث نجحت هذه الجماهير في توقيف عدة مباريات بتدخلها المباشر في الملاعب، أحيانا ملثمة لتفادي تعرف كاميرات المراقبة، أو بعدما بلغت نتائج تدخلاتها إلى علم باقي الملاعب الإيطالية، وخصوصا مباراة أنتير ميلانو ولازيو، وبعد ذلك قام مشجعون في عدة مدن إيطالية بأعمال عنف أضرت بعدد من المنشآت وخصوصا الرياضية…بل إن جنازة الشاب غابرييلي القتيل شكلت حدثا رياضيا وطنيا بفضل حضور مشجعين ولاعبين من عدة أندية وطنية، وألقيت فيها كلمات وأشعار، ونثرت على قبر القتيل ورود وأزهار ورفعت فيها أعلام نادي لازيو وشعارات محرضة ضد رجال الشرطة… في تجسيد غريب لمأسسة العنف الرياضي ضمن ما يشبه الإيديولوجية القائمة على وحدة الفريق الرياضي والمدافعة عنه وعن كل الأطراف المرتبطة به، مقابل ما عرفه التاريخ من إيديولوجيات قائمة على وحدة العقيدة أو الطبقة الاجتماعية… وهنا بالضبط تكمن خطورة الإيديولوجية القائمة على الحماس الرياضي، لغياب توجه نظري يسنده منطق قائم على حسابات ومصالح دينية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكون لحظة التماهي في العاطفة « الجمعية » للمحبين في قالب النادي أو الفريق المحلي أو القومي، هي بالضبط لحظة انفعالية، يصعب التحكم فيها، وإن الحدث الإيطالي الأخير أبرز مثال، وأكبر دليل على استمرار التماهي الموجه للسلوك عدة أيام في الحدث، بل وارتقاء السلوك إلى ما تم اعتباره نظرية « مؤامرة الشرطة ضد المشجعين » تستوجب الانتقام للشاب القتيل وفرض هيبة الجمهور الكروي… خصوصا وأن حدثا سابقا في نفس البطولة في بداية الموسم تجلى في قتل رجل شرطة إيطالي من طرف مشجعين، قد استنفر كل القوى الرسمية من جامعة وحكومة وأمن لتوقيف البطولة الإيطالية لكرة القدم وفرض عقوبات، الشيء الذي لم يتم في حالة الشاب القتيل، وهو تمييز لم يقبله المشجعون…
football-violence_1.jpg

على المستوى الوطني، إذا كان العنف اللفظي في الرياضة وخصوصا في كرة القدم هو المعهود منذ عشرات السنين، إلا أن العنف البدني كان جد محدود ولم يكن بعيدا عن أسباب الخلافات الشخصية المتنوعة التي تؤدي إلى الشجار والضرب والجرح، ومن بينها الحماس للفريق أو رفض سماع ما يسيء إليه أو كرد فعل على انحياز مفترض ضد الفريق في التحكيم، وصل أقصاه بلجوء شاب محب لفريق الحي في دوري بين الأحياء بمناسبة شهر رمضان 1410 هجرية الموافق 1990 ميلادية بسلا إلى قتل حكم المباراة بطعنة سكين انتقاما مما اعتبره انحيازا من الحكم للفريق المنافس…، غير أنه، باستثناء هذه الجريمة البشعة والمعزولة ووفاة شاب في تدافع بملعب محمد الخامس قبل سنوات قليلة، لم يرتق العنف إلى الظاهرة المرتبطة بالرياضة إلا في حالات خاصة، أبرزها الديربي التقليدي بين الوداد والرجاء، والذي صار وأكثر من أي وقت مضى يتطلب احتياطات أمنية أكبر، دون أن تحد من الأضرار المادية خصوصا التي تصيب الملاعب وممتلكات أغلبها خاص من سيارات وحافلات وواجهات…واستدعت هذه الاحتياطات أحيانا طرح سؤال سلامة استمرار المركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء في موقعه الحالي وسط كثافة سكانية كبيرة ومرافق عديدة، وهو سؤال من المخجل الاضطرار لطرحه، بالنظر إلى القيمة المعمارية والتاريخية والرياضية لهذه المعلمة.
violence-football.jpg

الأحداث التي أعقبت الديربي البيضاوي منتصف شهر أكتوبر 2007 والتي كلفت شركة للنقل بواسطة الحافلات وحدها خسارة بلغت 150 مليون سنتيم، وكلفت مدرجات مركب محمد الخامس أضرارا تجاوزت قيمتها العشرة ملايين سنتيم، دون حساب الواجهات المكسرة والأضرار البدنية…وأدت لاعتقال ومحاكمة العشرات الذين أدينوا بعدة أشهر حبسا نافذا مع الغرامات، وإلى منع الاستقبال بالمركب، ليس فقط مباراة الديربي ولكن أيضا مباريات البطولات العربية والإفريقية لفائدة الفريقين البيضاويين… أثارت نقاشا جديا واسعا بين جميع المتدخلين في الشأن الرياضي، من حكومة وجامعة ملكية للعبة وعصب وأندية وجمعيات محبين، دون إغفال الصحافة بمختلف أنواعها، باستشارة مختصين من علماء اجتماع ونفس ومربين وأطر من الأمن، وهو نقاش ما زال مستمرا لحد الآن وبقوة أكبر، بعدما وضعت له تشريعات زجرية في القانون الجنائي، وجاءت أحداث عنف أخرى كثيرة، خصوصا بملعب مراكش الجديد، رغم ترسانة التشريعات وتوفر رجال الأمن…
violence_FB_argentine.jpg

وإذا كانت تدخلات المختصين الجامعيين قد انطلقت من العنف كظاهرة مرتبطة بنشاط جماعي حماسي، وخصوصا كرة القدم التي تصدرت العلاقة مع هذه الظاهرة، لأسباب نفسية واجتماعية، وعلى المستوى الشعبي، بارتباط مع ثقافة تنتقص من حق الآخر في التعبير والبروز عوض أن تحترم ذلك ضمن تنافسية شريفة تحقق شعار « الأفضلية للأقوى »…

فإن ما لم يتمثل التشريح الأكاديمي للظاهرة، وساهم في تسطيحها هو بالضبط تخليقها الذي انجرت معه أغلب التفسيرات، أي اعتبارها مجرد انحراف سلوكي لبعض الأشخاص ضعيفي التربية، ستنفع معهم النصيحة ودعم جمعيات المحبين لتأطير الجمهور.. بينما الانحراف السلوكي في العنف الرياضي والكروي هو نتيجة لا سبب… بدليل أن عددا من المشاغبين في عدة رياضات هادئة أو صارمة، ينضبطون لرياضتهم!

وفي إطار التفسير السلوكي للعنف تم تحميل جمعيات المحبين والأمن أكبر قدر من المسؤولية، الأولى بتأطير الجمهور وتوجيهه وتعليمه قيمة احترام الملعب والفريق الخصم وجمهوره، والتهديد بإجراء المباريات الحماسية بمدرجات فارغة أو مدن أخرى مما يحرم الفرق المعنية من مداخيل مهمة، ومطالبة الأمن برفع عدد رجاله في الملاعب وخارجها، واستعمال أحدث أساليب الوقاية من تفتيش قبلي وكاميرات مراقبة وغيرها …
VIOLENCE.jpg

ولأن الفرجة في الرياضات الجماعية التي تعتمد على الاحتكاك المباشر وعلى الأهداف التي ترفع الحماس، وكرة القدم أعلى تجلياتها، هي أكثر من مجرد فرجة، إلى ما يشبه المتنفس من الضغوط النفسية والاجتماعية التي لا يخلو منها أي مجتمع، ومنه المجتمع الإنجليزي المعروف بهدوء شعبه، وفي نفس الوقت بشغب مشجعيه في الملاعب ووقوفهم وراء أكبر المآسي الكروية، وتلقيهم أكبر عدد من قرارات منع حضور المباريات والمراقبة القبلية…فإن العنف سيظل القدر اللصيق بكرة القدم في كل العالم، أي الدخيل على الرياضة وعلى كرة القدم « الساحرة » بسبب من ضغوط المجتمع المختلفة، والتي تتغذى من اتساع الهوة بين مكونات المجتمع، ولعل في إرهاصات تكوّن « الإيديولوجية الرياضية » التي رأينا في إيطاليا عقب مقتل المشجع الشاب سنة 2007، أكبر دليل على أن ما ينتظر كرة القدم بشكل خاص صعب ومرعب، ما يدعو لتكاثف الجهود للتخفيف من حدة الظاهرة، وتخليص كرة القدم من صفة العنف اللصيقة، ولكن غير المحتومة.

ولن تكون أي انطلاقة جدية إلا إذا اعتمدت أيضا الأبحاث النفسية والاجتماعية كمصدر أساس لفهم الظاهرة، لتكون الاحتياطات الأمنية والتوجيه الأخلاقي للجمهور والتربية وسائل مساعدة مرافقة وضرورية، وإلا إذا اعتمدت بحث آثار ضعف أو انحراف قرارات التحكيم أو التسيير أو التنظيم، وخصوصا استفزاز أو استثارة الجمهور الرياضي في مناسبات معينة، يكون الشغب بعدها نتيجة حتمية…فليس هناك ما هو أخطر في الرياضة وعليها وعلى ما يقترب منها، من استثارة « الضمير الجمعي » لفئة المحبين واستفزازه….
les-supporteurs-de-l-aek-ont-affronte-la-police-dans-le-stad.jpg

ويظهر لي أن أكبر ما يدمّر الروح الرياضية في كرة القدم هو بالضبط نجاحها الإعلامي الخارق، وأولويتها في الدول التي توحي للمواطن بمختلف الوسائل بأنها قضية هوية محلية بإزاء النادي ووطنية بإزاء المنتخب لإثبات الذات الجمعية، وهيمنتها المالية والاعتبارية على كل أنشطة البشر في العالم، لدرجة بلغت معها القيمة التبادلية للاعبين المرموقين وتعويضاتهم ومعهم بعض الأطر التقنية أرقاما خيالية، ووصلت رهانات أكبر الشركات العالمية على كرة القدم ومنافساتها وأنديتها الكبرى ميزانيات غريبة، ويمكن هنا، للتوضيح وتقريب المعنى برياضات أخرى، التمثيل برياضات شعبية وغنية أمريكية تعتمد الاحتكاك مثل كرة القدم الأمريكية والهوكي، وتعرف نسبة عليا أيضا من الشغب داخل الملاعب بين اللاعبين وعلى المدرجات بين الجمهور، ويقل الشغب، دون أن ينعدم، في كرة السلة الأمريكية الرياضة الأولى هناك، لأن قواعد هذه اللعبة تقلص من تأثير الاحتكاك والصدام بين اللاعبين إلى أقصى الحدود، وكذلك لكون السلات التي تحدد مصير المقابلة كثيرة، وقابلة للاستدراك بشكل كبير، على عكس الأهداف في كرة القدم، حيث هدف واحد غالبا ما يحسم مصير مقابلة…

لا أريد أن أكون جازما في هذا التحليل، بقدر ما أهدف لتوجيه النظر إلى نقطة ضعف كرة القدم التي تصنع الشغب، والتي تكمن بالضبط في قوتها! على أساس أن تتوسع دراسة ظاهرة الشغب الرياضي من طرف أخصائيين، لتشمل طبيعة الرياضة نفسها، وهي هنا كرة القدم كنموذج، التي تحتاج بعض التحسينات التقنية التي تخفف من الاحتكاك والصدام البدني، دون التقليص من تشويقها وفرجتها، وتشمل أيضا دراسة حجم حضورها وتأثيرها على المجتمع ونفسيات أشخاصه.

وفي تقديري الخاص، فإن الحل يبدأ بوضع الرياضة في إطارها الذي وجدت من أجله منذ آلاف السنين، أي كنشاط تنافسي فرجوي، يهدف إلى الارتقاء بالأداء البدني والذهني للرياضيين نحو اللا منتهي، ويرتقي بذوق الجمهور الرياضي والفني، وإبعاد الرياضة، وفي مقدمتها كرة القدم، بالتدريج عن الرهان الاجتماعي المكثف المتجاوز للهدف الرياضي وعن المضاربات الاقتصادية، ليأخذ الاستثمار بها حجما معقولا بالمقارنة مع الاستثمار في مجالات العلم والثقافة والفكر والفن، ويسمح باستفادة أوسع لمختلف الرياضات، دون أن يعني ذلك الانتقاص من مستواها الفني، أو التقليص من جمهورها، بدليل أن أسماء رياضية خالدة إلى اليوم في كرة القدم وغيرها أمتعت وأقنعت في زمن لم يكن فيه احتراف، أو كان يأخذ حجما ملائما ومعقولا مقارنة مع باقي مجالات الإبداع العلمي والفني والثقافي الراقية، أي احترافا يضمن الحياة الكريمة، دون الأرقام الحالية التي تتجاوز كل منطق، وتزيد مئات المرات عن الحاجة والترف، والأهم من كل هذا تزيد بمئات المرات عن منطق السوق المطبق في أهم وأبرز المهن والمهام والخدمات، ما يجعلها تصنع خللا في منطق السوق، وتصبح وبالا على نفسها من خلال إنتاج العنف المتولد من تجاوزها لحدودها الرياضية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.

Leave A Reply

Your email address will not be published.