أزمة كرة القدم المغربية لا يمكن تجاوزها إلا في إطار تصور شمولي للنهوض بالرياضة الوطنية

قدم الناقد الرياضي عبد الحفيظ العمري مداخلة بمناسبة الندوة الوطنية المنظمة من طرف أكاديمية أقصبي لكرة القدم بفاس يوم 24 فبراير 2012 تحت شعار: أي مستقبل لكرة القدم بعد نكسة الغابون 2012؟

وقبل الشروع في مداخلته، اشار الأستاذ العمري إلى أنه ينطلق في عمله من منظور يتميز بالنظرة الشمولية لكرة القدم التي لا يرى لها حلا خارج تصور شمولي للرياضة المغربية، وفي ما يلي نص المداخلة:

بداية أشكر مؤسسة أقصبي لأكاديمية فاس لكرة القدم على هذه البادرة التي سمحت لعدد من الفاعلين الرياضيين من تخصصات مختلفة بإدلاء رؤيتهم لمستقبل كرة القدم المغربية، رغم الحيز الزمني الضيق والذي أتفهم دواعيه، وقبل الشروع في المداخلة، أود أن أوضح أنني أنطلق من نظرة شمولية في التعاطي مع كرة القدم، سواء من حيث علاقتها بباقي الرياضات الوطنية الأخرى، أو من حيث تشعب الجهات المتدخلة في مصيرها، كما أنني ولضيق الوقت سأكتفي برؤوس أقلام لا غير..

وبخصوص عنوان الندوة أتساءل: هل يتعلق الأمر بنكسة أم بشمتة؟ ولنسأل كم عدد المتتبعين الذين كانوا يصدقون المنتخب كان سيعود بكأس إفريقيا للأمم وأن السيد إيريك غيريتس يملك مواصفات الإطار التقني من المستوى العالي؟ هذه المواصفات التي تجعله يستحق أن ينال ثقة مسؤولي الكرة المغربية (وبالشكل المسرحي الذي على بالكم)، حتى بغض النظر عن مسألة الأجر وما أسالته من مداد؟ وعلى سبيل البسط، فقد قام تاجر تجهيزات إلكترونية بعرض مثير لبيع أجهزة تلفزيون قبيل الكأس الإفريقية ملتزما بإرجاع ثمن الجهاز لكل مشتر في حال فوز منتخبنا بهذه الكأس، فهل كان ذاك استغلالا لحساب وتقييم دقيقين لمستوى المنتخب المغربي أم مجرد مغامرة ؟

لا يتعلق الأمر بنكسة ولكن بتعرية أزمة بنيوية عميقة ومتعددة الأبعاد للكرة المغربية، وبنظرة ضيقة تسود في الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، منذ سنوات عديدة، نظرة تقنوية، ترى في توفير الميزانية والناخب ذي الإسم الكبير معيارين أساسيين لتحقيق النتائج الإقليمية على طريق العالمية، وهي نظرة ضيقة ساندتها بدون تحفظ الوزارة الوصية ودافعت عنها، وأجازتها اللجنة الأولمبية المغربية….

ومن مكر الصدف، أن تضاعفت ميزانية الجامعة لتصل الخمسين مليار سنتيم منذ سنتين، ووضعت نفس الجامعة يدها على مدرب بلجيكي رأت فيه المنقذ، فبذلت من أجل إقناعه الغالي والنفيس، وقدمت من التنازلات لنيل رضاه، ما جعل عددا من وسائل الإعلام يتندر بالحدث، سواء من ناحية الأجر الخيالي الذي لم يجرِؤ أحد على التصريح به سواء في الجامعة أو الوزارة الوصية، بل إن البرلمان المغربي بما يمثله من منزلة دستورية مراقبة للحكومة وتمثيلية للأمة، قد عجز بدوره عن إجبار المؤسستين على الاعتراف بأجر الناخب غيريتس، أو من حيث الأجل الذي تم السماح لهذا الناخب به من أجل إنهاء تعاقده مع الهلال السعودي، بل إنه أشرف على مباراة إقصائية للمنتخب الوطني عبر سماه الإعلام المغربي « الرموت كونترول » دون إغفال الدعم الإعلامي الكبير لمباريات البطولة والكأس وتتبع عام، وما يقارب 80 بالمائة من اللاعبين المحترفين والمتوفرين على مؤهلات فردية جاهزة.

إذن، دون أن يثبت التصور التقنوي فعاليته، فقد تلقت الكرة المغربية أسوأ نتائجها في الوقت الذي نجد أن الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم قد:

1/ توفرت على مال وفير سمح لها بترف أن تدفع للمدرب غيريتس واحدا من أعلى رواتب ناخبي المنتخبات الوطنية في العالم، والأعلى بأكثر من ست مرات من أعلى راتب لناخب منتخب إفريقي وعشر مرات أكثر من راتب ناخب المنتخب الزامبي المتوج بالكأس.

2/ تعاقدت مع من تعتبره أفضل ناخب يصلح للمنتخب الوطني المغربي (مساند بطاقم تقني فرنسي هولندي بكلفة عالية أيضا) لتحقيق أفضل النتائج القارية مع تلميح بأحلام وردية بأفق عالمي للمنتخبات الوطنية لكرة القدم.

3/ جلبت ما يكفي وزيادة لوضع هيكل وأساس المنتخب الوطني من المحترفين خصوصا بالأندية الأروبية الذين أنتجتهم هذه البيئة باعتبارهم مغاربة من الأجيال التالية للجالية المغربية المقيمة بالخارج.

4/ اِشتغلت بدون أي ضغط من معارضة أو مساطر بيروقراطية مما يمكن أن يعرقل تصوراتها هاته وبعيدا عن الآليات الديموقراطية والقانونية المؤطرة لهذه الجامعة…

5/ شاركت في مرحلة نهاية كأس إفريقيا للأمم 28 في غياب أربعة من أقوى المنتخبات الإفريقية التي لم تصل هذه النهاية وهي: مصر، جنوب إفريقيا، الكامرون والجزائر.

ولأنه لا يمكن الحديث عن مستقبل أي ظاهرة دون كشف مظاهر أزمتها، وفي مقدمتها:

1/ النظرة التقنوية التي سطرنا أهم محدداتها أعلاه، والتي تُمارس بشكل جد ضيق، بل لا تستثمر المؤهلات الهامة الفردية للاعبين المحترفين في الحدود القصوى، حين تقلص مدة المعسكرات، فلا يجد المحترفون ما يكفي من الوقت لتحقيق التناغم والانسجام واستيعاب الخطط، والتشبع بالقيم الجماعية للمنتخب، ولا تتم مرافقتهم بأخصائيين نفسيين يعالجون، بالمدلول التربوي وليس الطبي الإكلينيكي بالضرورة، يعالجون المؤثرات السلبية لوضعيات لاعبين يأتي عندهم المنتخب الوطني، عوض أن يذهبوا هم عنده، وأقصد ما يتسبب فيه ذلك من اغتراب أو على الأقل نظرة ميركانتيلية تعاقدية تسيطر فيها حسابات المصالح الشخصية أكثر منها عاطفية تتماهى مع عاطفة جمعية خاصة..

2/ النظرة التمييزية التي تعزل كرة القدم عن باقي الرياضات الوطنية الأخرى، فتتحدث عن تركيز الدعم على ما تسميه « قاطرة الرياضة الوطنية » مما يقتل التنافسية لدى كرة القدم وقد حصلت على حصة الأسد من كل دعم، وقد أثبتت تجارب الأمم الكبرى في كرة القدم أنها أمم متقدمة في عدة رياضات…

3/ النظرة التجزيئية التي تدعو المؤسسات الاقتصادية إلى الاستثمار في كرة القدم، وتقدم مختلف التسهيلات الإعلامية، خصوصا عبر القنوات التلفزية الوطنية، دون أن تنتبه إلى واجبها في إقناع هذه المؤسسات بما يمكن أن تقدمه كرة القدم الوطنية لهذه المؤسسات ضمن تصور متقدم للشراكة بين الاقتصاد الوطني والرياضة المغربية… فأحرى تقديم تصور شمولي لاندماج مصلحي متبادل بين الاقتصاد والرياضة.

4/ استمرار تراجع عدد الفضاءات المخصصة لكرة القدم القاعدية للأحياء بمختلف المدن والقرى المغربية، وعدم كفاية الملاعب لبطولات الهواة وبعض أندية النخبة، خصوصا للتداريب، وضعف الآلية القانونية التي تشجع وتدعم جمعيات الأحياء الرياضية بعامة ولكرة القدم بصفة خاصة.

5/ تراجع مستوى البطولة الوطنية رغم الدعم المالي المقدم لأندية النخبة والشروط الصعبة التي فُرضتها الجامعة عليها من أجل حمل صفة « الاحتراف » الذي يبقى صفة جد سطحية، علما أن بطولة احترافية تتطلب، إضافة إلى الشروط المالية والتجهيزات، قاعدة بشرية تغذيها نسبة لا تقل عن مائة مرة من تلك الكتلة النخبوية وتكون مؤطرة بشكل سليم وهرمي في مختلف أقسام البطولات الجهوية والمحلية بالوطن.

6/ ضعف حماس لاعبي البطولة الوطنية للنخبة رغم أن دفتر التحملات الجديد قد ضمن حقوقهم بشكل صارم، حتى وإن كانت بعض الأندية التي التزمت بتوفير ميزانية سنوية دنيا في حدود 900 مليون سنتيم، قد عجزت عن أداء أجور لاعبيها أو تسديد مكافآت مبارياتهم الأخيرة، ويبدو أن أهم ما أطفأ شعلة حماس اللاعبين بالبطولة الوطنية هو النظرة المميزة التي يحظى بها اللاعب المغربي المحترف بالخارج من طرف مسؤولي الجامعة والتي تحبط اللاعب المحلي فيرفض بوعي أو بدونه تقديم أقصى ما لديه…

7/ اِستمرار وَهْمِ تَفَوُّق اللاعب المحترف بالخارج، وإغفال حقيقة أن هذا اللاعب ليس جاهزا بالشكل الذي يراه به الناخب ومسؤولو الجامعة، نعم هو جاهز ضمن فريق ناديه الذي يخضع لتأطير على مدى السنة ضمن تصور تقني لمدرب النادي، ومتابعة يومية، وبالتالي يكون منسجما مع فريقه ومع أسلوبه، وتألق اللاعب في هذه الحالة يعني أنه جاهز ضمن هذا النسق، أما اعتباره كذلك بالنسبة للمنتخب المغربي الذي ينتمي إلى بيئة جغرافية واجتماعية وثقافية ونفسية وشروط تقنية مخالفة، فنسبة الخطإ هنا قد تكون كبيرة، باعتبار اختلاف البيئة والثقافة والقيم وضعف الانسجام ضمن النسق التقني للناخب الوطني بسبب قلة التحضيرات الخاصة بالمنتخب الوطني، دون التوقف عند حالات عدد من اللاعبين الذين تمت دعوتهم وكانوا غير جاهزين أو مصابين أو خارجين لتوهم من إصابة…

8/ استمرار التسيير الهاوي في أبسط تجلياته حتى بالنسبة لأندية البطولة الاحترافية، واستمرار اعتماد هذه الأندية على تسبيقات المسيرين ومختلف أنواع دعم الدولة والمؤسسات العامة، سواء بوضع الملاعب رهن إشارتها أو خدمات مجموعة من المستخدمين في الملاعب، أو المنح العمومية، دون حساب خدمات الأمن خصوصا في المباريات التي تعرف حضورا جماهيريا أو تتوقع شغبا…

خاتمة:

يمكن الاستمرار في سرد نقط ضعف كرة القدم المغربية، موضوعيا، لكن نكتفي بما سبق، لنمر إلى السؤال الجوهري: أي مستقبل لكرة القدم المغربية بعد نكسة الغابون 2012؟

إن ردود فعل أهل الجامعة المعنية (وخصوصا بعد بلاغها الأخير الذي قفز على الواقع وتهرب من تسمية الأشياء بمسمياتها، وجدد ثقته في الناخب غيريتس، بدعوى ضمان الاستمرارية (استمرارية أي مكاسب أو إنجازات؟) وتغاضي الوزارة الوصية لدرجة التواطؤ، وصمت اللجنة الأولمبية المغربية… تثبت بشكل أكيد أنهم لم يستفيدوا من الكبوات العديدة التي تسببت فيها بتلك التوجهات الخاطئة لكرة القدم بخاصة والرياضة بعامة، وبأنهم لن يعملوا سوى على إعادة إنتاج الهزائم، حتى ولو صادفت الكرة المغربية نتائج إيجابية موسمية ومعزولة مستقبلا.

وأول فعل يمكن أن يثبت حسن نية الجامعة والوزارة واللجنة الأولمبية، وربط المؤسسات هنا ليس جزافا، لن يكون سوى رد الاعتبار للبطولة الوطنية وتعويض الدعم الجزافي للأندية بمكافآت على الإنجازات الفردية والفرقية، وتوفير شروط تنافسية حقيقية تقطع مع فساد التحكيم والريع الرياضي، بالنسبة للجامعة.

وبالنسبة للدولة، فإن من واجبها التَدَخُّل لتشريع قوانين تَدْعم التكامل الطوعي والمنفعي المشترك بين الاقتصاد المغربي والرياضة على أسس صحيحة، ووضع الإعلام العمومي رهن هذا التوجه، بتعميم التجربة التي انطلقت مع جامعة الكرة، وبشكل محتشم مع جامعة كرة السلة وبعض الرياضات الجماعية الأخرى… وتحديد نسبة دعم الجماعات ومكاتب الجهات الاقتصادية والمؤسسات العمومية للرياضة حسب دفاتر تحملات وعقود أهداف مراقبة ومحاسب عليها بصرامة، ودفع الشراكة بين الجامعات الرياضية ومجموعة من القطاعات العمومية من قبيل وزارة التربية الوطنية (خصوصا في ما يتعلق بتطبيق التوقيت المستمر وهو أكبر مدعم للنشاط الرياضي، والفضاءات) والصحة العمومية والجماعات المنتخبة وسلطات وزارة الداخلية دون إغفال الإعلام وخاصة القنوات التلفزية التي يمكن أن تسهم بشكل جذري في تقدم كل الرياضات مثلما فعلت مع كرة القدم لتصل إلى ما وصلت إليه بفضل الإعلام أساسا وليس النتائج بالضرورة….

من جهة الأندية، وهذا قد لا يعجب اللاعبين والأطر التقنية والأجراء، إذا أردنا تنمية كروية حقيقية، فلا بد من مرحلة انتقالية يتم فيها ربط الأجور بالمردودية الاقتصادية للأندية واللاعبين والأطر التقنية حسب معطيات الواقع المغربي، فلا مستقبل لناد تشكل الأجور والمكافآت داخله كتلة قد تتجاوز 80 بالمائة من مصاريفه، علما أن مداخيله من الدعم العمومي قد تصل نفس النسبة، وبالتالي، أي احتراف وهذا النادي يعيش بالدعم العمومي بنسبة تقل أو تزيد عن 80 بالمائة من ميزانيته؟ وقد تصل في أحسن الحالات إلى 50 بالمائة مع أكبر الفرق المغربية (يجب إدراج الملاعب وتعشيبها وصيانتها وأجور عدد من مستخدميها والمنح العمومية وقوات الأمن خصوصا في المباريات الحاسمة…، فإما أن نمارس الاحتراف بشكل سليم، وإما نفرض الحكامة الجيدة في تدبير أموال الدعم الرياضي العمومي، على الأقل إلى حين توفر شروط تطبيق الاحتراف، أي حين يصير بمقدور النادي أن يبيع منتوجه لكل الأطراف المعنية بكرة القدم، من جمهور يدفع تذكرة الدخول إلى الملعب، وأعضاء يؤدون واجبات الانخراط ومحبين يقتنون منتوجات النادي وشركات تستثمر إسمها في شهرته وقنوات تلفزية تنقل مبارياته…

ولنختم بهذا المثال: إذا كان مدرب البارصا يتلقى أجرا يقارب المليار سنتيم شهريا، فلأنه بنتائجه وإشعاعه يجعل النادي يغطي هذا الأجر، وإذا كان هذا المكتب المسير لا يتردد في شراء لاعبين بعشرات ملايير السنتيمات لكل منهم، ويوفر لهم أجورا تقل أو تزيد عن أجر المدرب، فلأنهم، بتقنياتهم وانسجامهم يحققون فرجة تترك في صندوق النادي مبالغ تغطي ما تم استثماره، إلى جانب مداخيل النقل التلفزي والإشهار وبيع المنتوجات الخاصة بالنادي… إضافة إلى ارتفاع قيمة عدد من اللاعبين عند إعادة بيعهم، أو بعد تكوينهم في مدارس الفريق.

El_amri_en_intervention.jpg

إذن، لنبدأ بشكل صحيح، وبعدها يمكن أن نحرق المراحل، أما أن نحرق المراحل أولا، ونقنع أنفسنا بإجراءات سطحية معزولة، ولو معتمدة على ميزانيات عالية واستثنائية، فلن ينتج ذلك سوى سقوط متكرر مثل الذي وقع في كأس إفريقيا للأمم بالغابون 2012، فقد قلت دائما: « إكليل الزهور ولو كان مُنَمَّقا، فإنه لا يصنع فصل الربيع »، وإكليل الزهور هو لائحة المحترفين، أما فصل الربيع فإنه التربة الخصبة للبطولة الوطنية القاادرة على إفراز هيكل قوي للمنتخبات الوطنية، وعلى المغرب أن يختار بين الاستمرار في نفس النهج الذي أنتج مهزلة الإقصاء المبكر من كأس إفريقيا وجعل شخصا مثل غيريتس يجعل بلدنا أضحوكة ويتلاعب بمؤسساتنا…، أو إعادة النظر في السياسة الكروية لتدخل في إطار توجه رياضي عام، ونوع الاختيار هو الذي سيحدد مستقبل كرة القدم المغربية بعد نكسة الغابون 2012.

(مداخلة بمناسبة ندوة بأكاديمية أقصبي بفاس لكرة القدم تحت شعار: أي مستقبل لكرة القدم المغربية بعد نكسة الغابون 2012، بتاريخ 24 فبراير 2012)

Leave A Reply

Your email address will not be published.