خلال سنة 1974 عرف الشطرنج الوطني، وكان جزءا من المجتمع التقليدي المغربي، عرف مشهدا هو الأول من نوعه في تاريخه، مشهد زوجة ترافق زوجها لاعب الشطرنج في فضاء عام، ويتعلق الأمر بالدكتور عبد الرحمن النجار وحرمه الأستاذة رشيدة العمراني رحمهما الله معا، خلال منافسات بطولة المغرب للأندية بعدة مدن مغربية
كنت شابا في بداية مرحلة ارتباطي بالشطرنج، وكان الدكتور عبد الرحمن النجار وقتها بطل المغرب ولاعبا دوليا، وشخصية جد متميزة بتألقها الرياضي وبتواضعها وروحها المرحة، وبحكم أنه دخل منافسات الشطرنج سنة 1962، وعمره 16 سنة فقط، فقد كانت له علاقات قوية مع جيل الرواد أمثال أحمد بنيس ومصطفى البقالي ومحمد نجاب بلعربي والمختار القادري.. ومع جيل الشباب لأوائل السبعينيات أمثال الأخوين الشامي كمال الصقلي والبشير السبيع وغيرهم
كانت سرعة اللعب حينها 40 نقلة في ساعتين ونصف مع إضافة ساعة ثالثة لـ 16 نقلة إضافية وبعدها، إن لم تكتمل المقابلة، يتم تأجيلها لصباح اليوم الموالي، وقد يتمدد التأجيل مرة أخرى لصباح اليوم الثالث، وتتعقد الأمور أكثر حين يكون اللاعب بطيئا بطبعه يستهلك كل وقته ويصبح متبوعا بأكثر من مقابلة مؤجلة، وطبعا أول سؤال يتبادر إلى ذهن اللاعبين الحاليين هو: كيف يتم التزويج للجولات الموالية بينما عدة مقابلات مؤجلة؟ والجواب هو أن الحكم كان يعتبر المقابلات المؤجلة على أنها تعادل مؤقت، ويتم التصحيح حين انتهائها، مع العلم أن التزويج كان يتم يدويا ويستغرق وقتا طويلا، وكانت الساعات ميكانيكية طبعا … بعد ذلك تم حذف التأجيل، وكان اللاعبان يتوفران على ساعتين لإجراء 40 نقلة ثم بعدها تضاف ساعة لإكمال المقابلة، وبعد ذلك انضافت سرعات جديدة تطورت أكثر من الساعات الإلكترونية..
إذن كان على الأستاذة رشيدة العمراني حرم الدكتور عبد الرحمن النجار أن تجلس بجانب زوجها أمام رقعة الشطرنج ما بين أربع إلى ست ساعات في كل مقابلة، لا تقوم من مكانها لغاية نهاية المقابلة.. بعدها يمضيان لمقر إقامتهما ثم يعودان في اليوم الموالي للجولة الموالية، وكنت أتساءل، وأكيد تساءل معي الكثيرون وقتها: أي حب هذا الذي يجعل هذه الزوجة تتحمل ثقل ساعات مرهقة أمام رقعة شطرنج حيث يدير زوجها المقابلة وهي تكتفي بالتتبع؟؟ لكن أكيد أن ما كان يجعلها تتحمل كل ذلك هو شعورها بمسؤولية أن تساند زوجها في هذه الهواية التي عشقها إلى حد كبير، واعتبرت أن ذلك من واجبها، وقامت به على أحسن وجه
لم تكن السيدة رشيدة العمراني رحمها الله تتبرم أو تقنط من الجلوس لمدة طويلة في جو صامت مقلق مقنط لمن لا يعرف أو لا يتقن قواعد الشطرنج أو مجريات منافساته أو لا يتابع مقابلاته، كان منظرها إلى جانب البطل عبد الرحمن النجار مثيرا لانتباه كل الحاضرين، ونحن سنة 1974… كانت عيناها لا تفارقان الرقعة… وكأنها تفكر بدورها في التوليفات المستعصية التي تعتصر دماغ زوجها البطل… وتستمر كذلك لعدة ساعات.. وبذلك كانت محل تقدير من الجميع، خصوصا وأن الدكتور عبد الرحمن النجار كان ذا منزلة عالية لدى جميع الشطرنجيين المغاربة
في سنة 1975 عرف الشطرنج المغربي سنة بيضاء بسبب نزاع بين الأبطال الفاسيين ورئيس الجامعة وقتها الأستاذ محمد التبر رحمه الله، وبعد تولي الأستاذ مصطفى البقالي رحمه الله رئاسة الجامعة في ماي 1975 وانطلاق الأنشطة من جديد في نهاية نفس السنة، لم يعد الدكتور عبد الرحمن النجار للمنافسة، كان قد قرر الاعتزال أواخر نفس السنة، وكان آخر دوري شارك فيه هو دوري كأس رمضان من تنظيم المركز الثقافي الأمريكي بالرباط في نهاية نفس السنة.. وهو أول دوري وطني كنت قد فزت به في مساري الشطرنجي.. مع العلم أن الدكتور عبد الرحمن النجار كان قد فاز بنسخة سنة 1974 من دوري رمضان للمركز الثقافي الأمريكي بالرباط وبونسخة سابقة من نفس الدوري
لقد كان السبب الأساسي لاعتزال الدكتور عبد الرحمن النجار رحمه الله انشغاله بعمله كطبيب مخلص لمهنته ولساكنة سلا التي كانت تعتبره إرثا لها .. وأطلقت عليه لقب « طبيب السلاويين » لكثرة زواره من ساكنة المدينة وثقل المسؤولية، ولتعامله الإنساني العالي مع فقرائهم بالعلاج والدواء المجانيين، وباعتزاله الشطرنج، غاب معه ذلك المشهد الجميل الذي كان يجمعه مع زوجته الأستاذة رشيدة العمراني رحمهما الله على أحد جانبي الرقعة، ليفقد الشطرنج المغربي منظرا لا يخلو من رومانسية وسط حروب مشتعلة على رقع الشطرنج، وهو المنظر الذي كان يخفف من وطأة الصمت القاتل لقاعات اللعب..
لم أنس يوما ذلك المشهد، كنت أستحضره كثيرا خصوصا حين أتذكر صديقي الغالي الدكتور عبد الرحمن النجار رحمه الله، ولطالما تأسفت لغياب صورة تخلد ذلك المشهد، لغاية أن توصلت من أبناء الفقيدين الدكتور عبد الرحمن النجار وحرمه الأستاذة رشيدة العمراني تلك الصورة التي أحيت في دواخلي عددا من ذكريات تلك المرحلة الجميلة
في سنتي 2012 و2013 شارك وصيف بطل العالم السويسري الجنسية السوفييتي الأصل الأستاذ الدولي الكبير فيكتور كورتشنوي في دوري الماسترز بمهرجان جبل طارق الدولي للشطرنج، حيث كنت أشارك ضمن طاقم التحكيم بصفتي حكما دوليا، وجعلني منظره ومعه زوجته السيدة بيترا ترافقه في بداية ونهاية الجولة أتذكر يوميا خلال كل جولة من الجولات العشر صورة الفقيدين الدكتور عبد الرحمن وحرمه الأستاذة رشيدة العمراني، أحيانا كانت السيدة بيترا كورتشنوي تجلس بجانب زوجها للحظات ثم تغادر القاعة وتعود حين تعلم أنه أنهى مقابلته فترافقه.. وهو ما لم تفعله السيدة النجار أبدا حيث كانت لا تفارق الدكتور عبد الحمن نهائيا من بداية المقابلة إلى نهايتها..
تحية خالصة لروح الفقيدين الغاليين الدكتور عبد الرحمن النجار والأستاذة رشيدة العمراني
عبد الحفيظ العمري