إذن لنسأل: كيف تخدم الرياضة النزعة الوطنية بما هي حب الوطن وشعور بالطمأنينة في أجوائه وَرِضى عن العيش فيه وحماس لخدمته؟ بكل تأكيد، فإن رياضة سليمة لا يمكنها إلا أن تقوم بهذه المهمة، رياضة يتم فيها احترام أول أسسها الذي بدونه لا يمكن أن نتحدث عن رياضة، ألا وهو « التنافسية »، هل يتم احترام التنافسية في الرياضة المغربية؟
بالتأكيد فإن فضائح التحكيم وبعض عمليات الغش والتمييز التي تقع بين الفرق، وتقلص الفضاءات العامة إلى الحدود الدنيا أمام زحف الإسمنت بدون اعتبار للبيئة أو الحقوق الرياضية للمواطنين…، إنما يدعو الشباب للشعور بالحسرة وهم يرون فرقهم المفضلة أو مواهبهم تنطفئ أو رغباتهم الرياضية تتضايق وتمضي نحو التهميش…، أو وهم يرون المنتخبات الوطنية لكرة القدم خصوصا حقول تجارب وبميزانيات خيالية بدون حسيب ولا رقيب…
صحيح ومن حسن الحظ أن الحكمة تتغلب لدى الكثيرين فيميزون بين الخطإ البشري الذي يتحمل مسؤوليته الكاملة عدد من الأشخاص المسيرين وتكون المؤسسة الرياضية ليس فقط الأداة لخدمة هذه التجارب الفاشلة، بل أيضا هي الضحية
ولكن الحكمة ليست مشاعة بين الجميع بكل أسف، ما يجعل ردود الفعل تختلف إلى درجة التعارض.
لذلك نعود إلى السؤال المُرفق بموضوع الندوة: كيف تخدم الرياضة النزعة الوطنية؟ كيف تتخلص الرياضة المغربية وخصوصا كرة القدم (التي تستفيد من عناية مادية وإعلامية استثنائية منذ عقود جعلتها تتحول إلى هَوَس مَرَضي لدى قطاع شبابي واسع عوض أن تستحق مكانتها بطريقة صحية بالتدريج)، قلت كيف تتخلص الرياضة المغربية من مظاهر التخلف والعنف في الملاعب؟ كيف تتطور وترتقي تصاعديا على غرار ما يحدث في بلدان قطعت مع التأخر الرياضي بعدما أدركت أن الرهان الرياضي ينطلق من:
ا
حترام التنافسية في التباري واحترام الكفاءة والعطاء في تحمل المسؤولية وتأكيد الفعالية بمحاسبة حقيقية تُشعِر الجميع بأن القانون فوقهم، واحترام النتائج في تحديد دعم الفرق واللاعبين سواء من أجل الاصطفاء أو المكافأة.. والعدل في التغطية الإعلامية ..
وهي شروط من شأن تحقيقها أن يعيد ترتيب البيت الرياضي المغربي، لينتج أفضل ما لديه من كفاءات في التسيير ومواهب في العطاء الرياضي، وليؤسس تراتبية جديدة بين الرياضات تقوم على مدى الإقناع الرياضي وليس فقط الإعلامي، عوض أن تستفيد رياضات من رعاية مادية وإعلامية جعلتها في مقدمة اهتمامات الجمهور لتكرار حضورها الإعلامي انطلاقا من إرادة مسبقة لا علاقة لها بالكفاءة ولا النتائج، بل إنها كلما تراجعت نتائجها كلما زاد دعمها ماديا، في معادلة لا تخضع لأي منطق، ما يجعل الأمل في إنقاذها ضعيفا لأنها لا تستفيد من أخطائها، وإنما تحاول شراء المعرفة بالمبالغ الخيالية التي تتجاوز إمكانيات بلد نام مثل بلدنا، على غرار من يريد أن يصنع فصل الربيع من باقة أزهار تم جلبها من حقول خارج البلاد، وسرعان ما تذبل الأزهار قبل تحقيق أول نتيجة.
ولن تكون فقط الرياضة الوطنية هي المستفيدة من العدالة المادية والإعلامية لتعطي أفضل ما لديها ولتفجر طاقات المواهب المغربية إلى أقصى الحدود، بل إن ظاهرة العنف التي صارت تتسع بشكل مخيف وتؤرق رجال الأمن والمواطنين القريبين من الملاعب، ستجد حلها، عندما يشعر محبو الفرق والمهتمون أن النتيجة كانت عادلة ولم يصنعها حكم بقرار متهور أو منحاز، ولا قررها مسؤول لفائدة هذا الفريق أو ذاك اللاعب، عندها، سيفقد العنف الرياضي دافعه النفسي المتجلي في الشعور بالخيبة وما ينتج عن ذلك الشعور من غبن وغضب قد يتحولان إلى رغبة في الانتقام والتدمير الأعمى…
والآن، : أي دور للرياضة في خدمة الوحدة الترابية للمملكة المغربية ؟
شَكَّل تحرير الصحراء بالجنوب المغربي واسترجاعها للوطن الأب سنة 1975 نقطة تحول عميقة في تاريخ المغرب الحديث، وكان منتظرا أن يعرف المغرب نقلة نوعية في مجالات الاقتصاد والمجتمع بفضل الدينامية الجديدة التي دخلها المغرب بعد سنوات الاستثناء، لولا التدخل الجزائري الذي تَبَنَّى الجماعة الانفصالية وسَلّحها ودعمها بالتدخل العسكري للجيش الجزائري في عدة مواقع على الأرض المغربية، والمساندة الإعلامية والديبلوماسية القوية، ليدخل المغرب سنوات من الاستنزاف المادي وتشتيت الانتباه عن موضوع التنمية الاقتصادية.. استمرت أكثر من خمسة عشر عاما، تلتها مرحلة استنزاف أخرى رغم وقف الحرب وتدخل إدارة الأمم المتحدة في انتظار الاستفتاء التأكيدي لمغربية الصحراء أو حل الحكم الذاتي في إطار الجهوية الموسعة ضمن المملكة المغربية…
وككل حرب حقيقية مرفوقة بآلة إعلامية جهنمية تتغذى من البترودولار الجزائري ودعم مجموعة دول موالية للجارة الشقيقة، (دون إغفال بعض الأخطاء في تعامل مسؤولين محليين مغاربة) فقد كان من الطبيعي تأثر بعض شباب المناطق الصحراوية بأطروحة الانفصال، مستفيدين من هامش الحرية في المغرب ومن دعم إعلامي من وسائل إعلام إسبانية وجزائرية بصفة خاصة، وإن كان المئات ممن عاشوا في مخيمات تندوف عادوا للمغرب في أول مناسبة أتيحت لهم في إطار شعار « إن الوطن غفور رحيم » الذي رفعه المغفور له الملك الحسن الثاني، متحملين أخطار الطريق ومليشيات الانفصاليين وجنود أرض الاستقبال الجزائرية.
ورغم أن الأمر يتعلق بعدد محدود من مساندي الأطروحة الانفصالية، إلا أن صداهم الإعلامي للأسباب المذكورة، وبعض الأخطاء هنا وهناك، يكون مؤلما، وفي مقدمة الأصداء، حدث الإضراب الذي قامت به المغربية الانفصالية أميناتو حيدر بأحد مطارات جزر الخالدات، وإن كان الموقف الجريء والشجاع للقيادي (الانفصالي السابق) مصطفى ولد سلمى قد فضح انحياز الإعلام الإسباني والجزائري لأطروحة الانفصال، خصوصا وأن أميناتو لم تكن في حالة دفاع عن موقف فكري، بل في موقف استفزازي وسلوك مخالف للقانون، برفضها ملء استمارة دخول البلد بشكل سليم، بينما كان اعتقال القيادي الصحراوي مصطفى ولد سلمى يقوم على اغتصاب حقه السياسي في التعبير عن إيمان بمبدإ حل الحكم الذاتي كحل نهائي ومناسب للمناطق الصحراوية المغربية الجنوبية.
الرياضة يمكن استعمالها حسب إرادة المسؤولين، فمثلما يمكن أن تساهم في تغذية الشعور الانفصالي، فإنها يمكن أن تساهم في تقليصه، بل يمكن أن تحقق العكس فتمحوه تماما، فشعور الانفصال هو نتيجة عدة معطيات، في مقدمتها الإحساس بالقهر داخل الوسط الاجتماعي، وهو قهر يتم توسيعه ليشمل كل الوطن، ويتحول إلى عداء لكل ما يرتبط به.
يمكن للرياضة أن تغذي الشعور الانفصالي عندما تفقد دورها التربوي والتنافسي، وعندما تطفئ في الشخص رغبته في التألق الرياضي الذاتي أو تعوق فريقه المحلي المفضل، لأي سبب غير رياضي، وقد رأينا في بداية هذه المداخلة أن الرياضة عندما لا تحترم التنافسية والكفاءة فإنها تنتج سلوكات مَرضية غاضبة يصعب التحكم فيها إراديا، في مقدمتها الشعور بالغين وتنمية العنف وإرادة الانتقام، والأمثلة متعددة..
وأيضا يمكن للرياضة أن تساهم في تقليص شعور الانفصال، عندما تنجح في أن تعيد للشخص المعني شعوره بالثقة في المنافسة الرياضية، وحين يتمكن هو أو فريقه من تحقيق نتائج عادلة، نتائج لا تشوبها شائبة غش أو تمييز أو ضعف في التحكيم، وعندما يقتنع بسلامة معايير الدعم المالي للفرق…فترتفع ثقته بوطنه وتدفعه للتمسك به..
وأخيرا، يمكن للرياضة أن تمحو شعور الانفصال، حين تنجح في أن تشعر الشخص المعني بالاعتزاز بالانتماء إلى الوطن، وهذا ما لا يمكن أن تحققه سوى الانتصارات الحقيقية الذاتية أو للفريق المحلي الذي يحبه، أو النتائج الدولية لأحد الفرق أو المنتخبات المغربية، حيث إن الانتصار له مفعول السحر على المواطنين بشكل عام، وقد كان لفوز إسبانيا بمونديال 2010 لكرة القدم دور كبير في إطفاء مشاعر الانفصال عند عدد من الباسكيين الذين جعلتهم فرحةُ تتويج إسبانيا بأكبر وأغلى لقب رياضي وهو مونديال 2010 يفتخرون بكونهم إسبانيين، خصوصا وأن عددا منهم تلقوا تهاني من الخارج على أساس أنهم إسبانيون أبطال العالم، فمن يرفض الشعور بهذا الفخر الذاتي…؟
وما يؤكد هذا التفسير هو معطى كون المجموعات الصغيرة إنما تحاول الانفصال عندما تشعر أن الإطار الوطني الذي يشملها يضيق أمام آفاقها ولا يحقق طموحاتها التنموية، فإقليم الباسك الإسباني يشكل أغنى المناطق الصناعية في البلاد، ويخدم التوجه الانفصالي الباسكي التنميةَ الاقتصادية المحلية أكثر في تنافسيتها مع باقي المناطق الإسبانية.. ومن هنا كان فوز إسبانيا بكأس العالم لكرة القدم فرصة ذهبية لإثبات أنها جديرة بأن تكون الوطن الكبير الذي يفخر به كل مواطنيه المهووس أغلبهم بكرة القدم.
بالعودة إلى سؤال الندوة، ندرك منطقيا أن المطلوب هو استكمال الأوراش الاقتصادية الكبرى في بلادنا بعامة وبالمناطق الجنوبية بخاصة، والتي ستشكل مفخرة كبرى لكل المغاربة وستملأ جانبا مُهِما من الفراغ الذي يشعر به كل انفصالي، ندرك بأن المطلوب هو تنمية الرياضة المغربية على الأسس التي ذكرنا، وهي التي تجسد عنوانا ألفناه دون أن نرى تجلياته الحقيقية، هذا العنوان الذي هو « الديمقراطية والحكامة الجيدة »، التي نسمع كثيرا عنها ولا نرى إلى القليل منها، وهي التي كانت محور الرسالة الملكية الموجهة للمناظرة الوطنية حول الرياضة سنة 2008، فلم تحرك ساكنا في بركة الرياضة الآسنة لأنها فُهِمت عكسيا، ولا بأس من التذكير بتجليات هذه الحكامة الجيدة كاتالي:
1/ احترام التنافسية في التباري
2/ احترام الكفاءة والعطاء في تحمل المسؤولية وتأكيد الفعالية بمحاسبة حقيقية
3/ احترام النتائج في تحديد دعم وتأهيل الفرق واللاعبين
4/ العدل في التغطية الإعلامية
والمهم في هذه الخلاصة، أنها لا تخدم فحسب المواطنة السليمة بل أيضا تدعم الوحدة الترابية للمملكة، وتجيب عن سؤال يؤرق كل الغيورين على سمعة ومصلحة هذا الوطن، وهو أن هذه « الحكامة الجيدة » هي مفتاح تقدم الرياضة المغربية، فقد أثبتت التجارب والوقائع أن المواهب ليست هي ما ينقص أطفال وشباب المغرب، وإنما ما ينقص هو سلامة التدبير لشحذ هذه المواهب على أسس تنافسية سليمة، لتعطي أفضل ما لديها، فيشعر اللاعبون ومعهم مسيروهم ومؤطروهم أن النتائج لا تشوبها شائبة، فيقبلون بها، وتدفع الجمهور ليصفق للمنتصر ويشجع المنهزم ليستعيد ثقته وينافس من أجل تجاوز نقط ضعفه والسعي لاستدراك النتيجة، وحين تعكس الصحافة غنى الرياضة المغربية وتنوعها.
إن الوطن الذي نعيش تحت سمائه ونستنشق هواءه ونرتوي من مائه ونتغذى من ترابه لا يستطيع أن يعطي الإحساس بالمواطنة والفخر بها إلا إذا أضاف لذلك تقدما وعدلا وتنافسية سليمة، ذلك أن هذا الإحساس هو ما يفرقنا عن الحيوان الذي يعيش معنا تحت سماء نفس الأرض ويستنشق هواءها ويرتوي من مائها ويتغذى من ترابها فيتمسك بها غريزيا، ونحن نضيف لذلك التمسك الغريزي بالأرض والاعتزازَ بالوطن والتمسكَ بوحدته، وهناك كثيرون عاشوا أو تربوا على هذا الإحساس منذ الصغر، لكن هناك إخوةً لنا يحتاجون لما يقنعهم بأن الانتماء للمغرب هو أفضل وأجمل إحساس واختيار، فليساعدهم القائمون على شؤونه على ذلك بتقدم اجتماعي واقتصادي وتنافسية رياضية تخدم التقدم الرياضي، وليضربوا بيد من حديد على يد كل من استغل المنصب الرياضي دون أن يكون أهلا له، فتسبب في تدمير النوع الرياضي وأطفأ بفشله عدة مواهب كان بمقدورها أن تمضي بعيدا ودفع بالكثيرين إلى الإحساس بالغبن والظلم في وطنهم…
ولذلك، أختم مداخلتي بالدعوة إلى محاكمة كل مسير من هذا النوع ومتابعة من ثبت في حقهم تبديد المال العام واستغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة ليكونوا عبرة لكل متطفل جديد .. بدون هذا، لا أمل لنهوض رياضي في هذا الوطن ولو تضاعفت الميزانية وستظل الرياضة قاصرة عن القيام بدورها في خدمة الوحدة الوطنية بالمستوى العالي المطلوب
عبد الحفيظ العمري