مناسبة هذا الكلام تلتقي مع موضوع الندوة، ومع الطيمة التي طلب مني الإخوة في اللجنة التنظيمية إعدادها، وهي: أي استراتيجية للنهوض بكرة القدم في العالم القروي »؟
بداية أوضح، أنني غالبا ما أبتعد في مواضيع النهوض بالرياضة وتنميتها عن تخصيص الحديث عن رياضة واحدة، لسبب بسيط، هو إيماني العميق بأنه لا تنمية ولا نهوض لرياضة واحدة في معزل عن باقي الرياضات التي تمتلك شروطا موضوعية للتنافس في ما بينها لفرز الرياضات القابلة للتنمية والنهوض أسرع من الأخرى.. ويمكن ملاحظة أن الدول الرائدة رياضيا تكون عادة متقدمة في مجموعة من الرياضات وليس في رياضة واحدة، حيث لا يجب أن ننساق وراء التركيز الإعلامي الذي قد يدعونا لإغفال هذه الحقيقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالبرازيل المشهورة بكرة القدم متألقة جدا في رياضات أخر أقل حضورا إعلاميا، مثل الكرة الطائرة وسباق السيارات والملاكمة وألعاب القوى والشطرنج…إلخ وإنجلترا متقدمة في الكريكت الذي يكاد يضاهي قوة كرة القدم بها، وفي الشطرنج وألعاب القوى والبولو..
وهذا التصريح يقودنا إلى طرح السؤال: هل رهان الدولة على كرة القدم الوطنية بعد مضاعفة ميزانية جامعتها وتقوية طاقاتها البشرية بخبرات التقنوقراط من خريجي المعاهد الكبرى كاف لتحقيق تنمية كرة القدم والنهوض بها؟ علما أن هؤلاء مكسب للتسيير في كرة القد الوطنية، ولكنه غير كاف، لكون المتدخلين في العملية الرياضية متعددين ومختلفي التخصصات…
ومعناه، بكل بساطة، أن قياس خصاص كرة القدم الوطنية من الزاوية المالية سيكون قاصرا عن الإلمام بمحددات تنمية كرة القدم في بلد كالمغرب، عِلما أن كرة القدم المغربية هاته قد أنتجت في زمن الهواية والإخلاص للقميص أكبر النجوم التي صنعت فرجة ملايين المحبين وحققت أروع النتائج الوطنية، كما مثلت المغرب عبر منتخبه في محطات دولية أو من خلال احترافها بفرق أروبية، أروع تمثيل، ولنا في مثال الخالد العربي بنمبارك رحمه الله، وفي الحاضر معنا في لحظة تكريم جميلة النجم حسن أقصبي شافاه الله وأطال عمره، خير مثالين واللائحة تطول وتتميز حسب شخصية وعطاء كل منهم ممن ما زالوا يملأون عيوننا ويشكلون مرجعية في اللعب النظيف والاستماتة والإبداع والفنية، وعدد منهم نقلوا تميزهم إلى مجال التدريب ليبصموا على حضور ناجح، وإن كان ما زال يحتاج جرعة ثقة من المسؤولين المحليين والوطنيين.
وما قيل عن النجمين العربي بنمبارك وحسن أقصبي في مسيرتهما الكروية الناجحة كلاعبين محليين ثم محترفين بإسبانيا وفرنسا وتألقهما، نعممه على عشرات الأسماء في رياضات أخرى منذ عبد السلام الراضي صاحب أول فضية في أولمبياد روما سنة 1960 مرورا بعشرات الأسماء الأخرى من أبرزها عويطة والمتوكل وبعدهما بوطيب ثم خالد السكاح وغيرهم، ثم ثلاثي التنس العلمي وأرازي والعيناوي وغيرهم في باقي الرياضات مما لا يتسع المجال للوقوف عند كل منهم…
وحتى أقفل هذا القوس أقول إن المال ضروري لتنمية الرياضة والنهوض بها، لكنه ليس كل شيء، ومثال ألعاب القوى الوطنية بميزانيتها التي تضاعفت عدة مرات في السنين الأخيرة دون صنع ولا اكتشاف أي نجم في حجم عويطة أو نوال أو بوطيب أو السكاح أو بيدوان الذين ظهروا وتألقوا جميعا في عهد الهواية أو شبه الاحتراف…يؤكد ذلك.. أما ما يلزم من وصفات لذلك فهو أكبر من مقام اليوم وما يجب أن يكون موضوع ندوات قادمة..
والآن لنعد لموضوع ندوتنا: « أي استراتيجية للنهوض بكرة القدم في العالم القروي »؟ لقد كان حديثي عن دور أبناء الفقراء في تغذية آلة التصفية الرياضية مقصودا لتأكيد ما تتوفر عليه البادية من طاقات بشرية ومواهب بلغت في المجال المعرفي أعلى المراتب بفضل ما حصلت عليه من شهادات وخبرات، بعدما انفتحت أبواب المدارس أمامها واستطاعت نخبتها أن تصل شأوا لم يبلغه الملايين من سكان المدن، ومعناه، أن كل استثمار يجب أن يتوجه بالضرورة إلى منبع الطاقة، وقربها يجب أن يبني مؤسساته، ومؤسسات الاستثمار الرياضي هي الملاعب، وما يرافقها من تأطير تقني، ومرافقة إدارية وإدماج في منظومة البطولات المحلية والجهوية والوطنية، وتشغيل الخبرات لاكتشاف المواهب وصقلها وفتح أبواب التألق أمامها، في إطار رؤية تشاركية بين مكونات النادي ومع الجماعة أو المجلس الإقليمي أو الجهوي أو في إطار تصور وطني على مستوى الوزارة الوصية، وتوجه عام مما يدخل في اختصاص الحكومة لتدخل أطراف متعددة في العملية الرياضية كما سوف نرى.
وعندما أتحدث عن رؤية تشاركية، فإنني أعود بعقلية التسيير إلى قِيَم الخمسينات والستينات والسبعينات خلال القرن الماضي، لإحياء قِيَم حب القميص والمبادرة والاجتهاد، فلا فنيات بدون ذلك ولا فرجة، هذا من جهة اللاعب والمدرب،
ومع هذه الرؤية، تتضمن التشاركية اقتسام الأرباح بين المستثمر أو النادي وبين الممارسين والأجراء، فلا يعقل أن يستمر هذا التفكير اللامنطقي والذي يجعل الممارس والتقني يطالبان بالأجر والمستحقات دون أن يسألا نفسيهما هل عطاؤهما الرياضي له دور في تحقيق موارد ناديهما، أو بتعبير أوضح: هل عطاؤهما مننتج ومربح؟ أم إنها سياسة الدعم الرياضي عبر المنح العمومية والهبات وعقود الاحتضان الموجهة (مع نسبة قليلة لمداخيل التذاكر أو الاستشهار..)، هي ما يسمح لهما بالحصول على أجرهما؟ وإلى متى يستطيع النادي أن يقاوم ويستفيد من وجود شخصيات داعمة في الدولة أو المجالس، قبل أن تتراجع موارده ونتائجه ودرجته في سلم البطولة؟ وأكيد أنكم تستحضرون أسماء وصور فرق لعبت أدوارا طلائعية في بطولة القسم الوطني الأول وتصرفت في الملايير، وهي الان تقبع في مجاهيل النسيان ببطولة الهواة…
مرة أخرى، هذا المعطى يدعونا لطرح السؤال: هل يأخذ الممارس والتقني الأجر المناسب لما ينتجانه من فرجة؟ وهل هذا يشجع المستثمرين على ولوج عالم الرياضة وكرة القدم، ليستثمروا في فرق في أفق أن يربحوا فيها عبر الاستثمار في اللاعبين وبيع التذاكر وحقوق البث والاستشهار والعلامة التجارية؟ ولماذا لم تتأسس وتتفعل أي شركة رياضية لحد الآن رغم أن قانون التربية البدنية والرياضة منذ صيغته الأولى تحت عدد 06-87 رخص بتأسيس شركات رياضية هادفة إلى الربح؟
إن الأجور بشكل عام في الرياضة ليست مرتفعة سوى في حالات بعض المدربين، وخصوصا الأجانب، وهذا موضوع ندوة خاصة، بل هي بئيسة في كثير من أندية المجموعة الثانية لكرة القدم، فأحرى أقسام الهواة والأقسام الشرفية، ولكن هذه الأجور رغم بؤسها تبقى أكبر بكثير مما تسمح به المداخيل في هذه الأندية التي لا يمكن الرهان عليها لتلعب دورا ما في تنمية كرة القدم والنهوض بها خصوصا في العالم القروي، حيث الموارد نادرة وغير مضمونة الاستمرارية..
لكن دور الدولة محوري في تنمية كرة القدم بالعالم القروي، فهي المسؤولة عن توفير الفضاءات وتجهيزها بالحدود الدنيا من المتطلبات، وبالعدد الكافي من المؤطرين ومن برامج التأطير، وهي المطالبة بتوفير مختلف التشريعات، وخصوصا تلك التي تسمح بالمبادرة لتأسيس ما يمكن أن أسميه « تعاونيات » رياضية، تنبني على تعاقد تشاركي، على أساس أن يشارك كل طرف برأسماله، من مسير بتسبيق من ماله ومدرب بخبراته التقنية وممارس بطاقاته وقدرته على صنع الفرجة وجلب الجمهور وتمثيل المنطقة في أقسام البطولة، ومن يرتبط بهم من مساعدين كل حسب دوره..
كذلك الجماعات المحلية مسؤولة عن تقديم الدعم اللوجيستيكي والمنح للفرق النشيطة سواء كانت في إطار تعاوني أو عادي، على أن أكبر وأهم دور يمكن أن تدعم به الدولة هذا المشروع هو سن التسهيلات لفائدة مختلف المؤسسات الصناعية والتجارية والخدماتية التي تدعم الرياضة، وخصوصا دفع القنوات التلفزية العمومية إلى الانفتاح على العلامات التجارية لهذه المؤسسات خلال المنافسات الرياضية للفرق المتعاقدة معها، بما يجعل هذه المؤسسات تقتنع بأنها رابحة على أكثر من صعيد عندما تستثمر في الرياضة… وهذا الغياب المتعمد للقنوات التلفزية والحاصل حاليا هوالعائق الكبير أمام تنمية الرياضة المغربية بعامة وهو من العمق والأهمية بحيث يحتاج ندوة خاصة ومتعددة المحاور…
وبدون دخول المؤسسات الصناعية والتجارية والخدماتية عالم الاستثمار في الرياضة بشكل عام فلا تنمية للرياضة في العالم القروي، لأن الرأسمال الدافع للاستثمار لن يتوفر، وستكون الرياضة في العالم القروي أول متضرر من هذا الوضع، فلا البنيات التحتية متوفرة، ولا التجمعات البشرية الكثيفة متوفرة، ولا الموارد في الحدود الدنيا حاضرة، وبالجملة، فسيظل تراجع الرياضة وكرة القدم في العالم القروي قدرا لا مفر منه.
لم أتحدث عن بعض التجهيزات والفضاءات الموجودة في بعض القرى، كما لم أتحدث عن مشروع بدأ تطبيقه في عشرات الفضاءات بالمدن والقرى، وأقصد « مراكز القرب الرياضية » التي جاء بها الوزير الجديد السيد منصف بلخياط، في أفق ألف مركز، وهو المشروع الواعد بكل تأكيد، والذي في حال تحققه بنسبة كبيرة، خصوصا في المجال القروي، سيدعم مشروع دعم الرياضة وكرة القدم بالعالم القروي، من خلال توفير بنيات تحتية ومؤطرين، لكن يبقى الأهم لتأسيس أندية منتجة كما رأينا: التشريعات التي تسمح للشركات بالاستثمار في الرياضة، وأقصد التسهيلات الضريبية وانفتاح القنوات التلفزية، وبدون هذين الشرطين، يستحيل إدماج الرياضة وخصوصا كرة القدم، ضمن الحركية الاقتصادية للمجتمع، لتتكامل من الحركية الاجتماعية المتحققة منذ عقود..
وحتى أكون واضحا أكثر في هذه النقطة، أقول إن رياضة النخبة مكلفة جدا، خصوصا كرة القدم، وقد أعطيت مثالا بميزانية الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم التي لا تصل نسبة خمسين بالمائة من قيمة لاعب كبير، بل إن ميزانيتها مضافا إليها ميزانيات جميع ىالفرق المغربية لا تصل إلى ميزانية أحد الأندية الإسبانية أو الأنجليزية لكرة القدم…
وما سمح لكرة القدم الأروبية بالتقدم وبأن تصل وتسمح لأندية بأن تدفع عشرات الملايير ثمنا لبعض اللاعبين، وتدفع عشرات الملايير أجورا لهم، وتحقق أرباحا سنوية بالملايير… هو بالضبط نجاح هذه البلدان في إدماج الرياضة ضمن المنظومة الاقتصادية، فصارت الشركات بمختلف أحجامها وقوتها تستثمر في فرق أو منافسات، ودخلت وسائل الإعلام على الخط كوسيط ضروري ومكمل، وتم بناء منظومة متكاملة محورها « المستهلك » وتمظهراتها متعددة كما رأينا..
إذن، لا بد من تصور جديد للتسيير الرياضي، ولا بد من إدماج الرياضة في المنظومة الاقتصادية، ولا بد من أن يتبع المجتمع هذا التصور المتقدم، فيرتقي المتفرج إلى درجة مستهلك يشتري الفرجة (ولا يبحث عن الدعوات المجانية لحضور المنافسات التي يكلف تنظيمها غاليا جدا)، ويصير المتفرج بدوره محور اهتمام الشركات ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها…
في هذه الحالة فقط، نستطيع أن نتحدث عن تنمية رياضية شاملة، تبدأ بالمدينة بالضرورة، لأسباب بنيوية بالدرجة الأولى، وتعرُج على البادية لأن فيها من الطاقات البشرية ما غذا الوطن في مختلف المجالات، فتكون البادية محور استثمار قائم على تعاقدات تشاركية أو تعاونية، بدعم من الشركات المقتنعة بربط منتوجها بمشروع تنموي رياضي جديد، وباهتمام من وسائل الإعلام وخصوصا القنوات التلفزية العمومية…. وفي انتظار ذلك تستمر معاناة الرياضة المغربية في العالمين الحضري والقروي.