ومع انطلاق البطولة المسماة احترافية، والتي لقيت تتبعا حثيثا من طرف القنوات التلفزية المغربية خصوصا، في إطار تعاقدات مالية مجزية للجامعة، برزت إلى السطح عيوب المشروع المعتمد على تصورات تقنية نظرية أهملت واقعا عنيدا متنوعا من المعوقات والإكراهات، في مقدمتها ضعف الجمهور وتواضع مداخيله، باستثناء حالات خاصة للرجاء والوداد، وهي حالات إذا كانت تنعش صندوق الفريقين إلا أنها ترهق الميزانية العامة بسبب كلفة التغطية الأمنية للمباراة بآلاف رجال الأمن، دون حساب الخسائر المادية في الملعب والممتلكات الخاصة، والأضرار البدنية..
من غير السليم مطالبة تجربة ضخمة بالنجاح في عامها الأول، ولكن من السذاجة الاعتقاد بأن أمورا يمكن أن تنجح في هذه التجربة، وفي مقدمتها الجانب المالي، فالعملية برمتها مقلوبة، عوض أن يأتي إصلاح كرة القدم من تحت، عبر إعادة النظر أولا في سياسة كرة القدم الفوقية التي تخطط على الورق ما كان يجب أن ينطلق من عشرات آلاف ملاعب الأحياء ومئات الملاعب المجهزة، ومن مساندة الجماعات المحلية لجميع الفرق الكروية للأحياء، كل حسب جهوده ونتائجه، وإدماج للمؤسسات التجارية والصناعية في المشروع الكروي، ليس فقط عبر تسهيلات ضريبية مقابلة، ولكن أساسا بتعامل القنوات التلفزية الوطنية مع هذه المؤسسات، على أساس أنها جزء من العملية الرياضية، من المشروع الكروي، وليس المقصود هنا الدعاية لها، ولكن عدم إخفاء شعاراتها ولوحاتها على الملاعب، جميع الملاعب، وعدم إهمال مبادراتها التي تستحق الإشارة الإعلامية.
قبل متم دورات ذهاب البطولة الاحترافية الجارية، تبين أن عدة فرق من القسمين الأول والثاني للبطولة الاحترافية تعاني صعوبات في تسديد أجور لاعبيها، علما أن تأخر ثلاثة أشهر يجعل اللاعب حرا من أي التزام مع ناديه، وتحرم النادي حتى من حق انتداب لاعبين جدد في فترة الانتقالات، وفي مقدمة الفرق المتأزمة يأتي الفريق الأكثر تتويجا في الموسم: المغرب الفاسي، بلقبيه الإفريقي الذي جعله يكسب حوالي 800 مليون إضافية وكأس العرش الذي أكسبه 200 مليون إضافية، أي أكثر من 900 مليون المطلوبة كحد أدنى في دفتر التحملات، فأي عبث هذا؟
العائق الثاني في مسيرة كرة القدم الاحترافية بالمغرب ارتفاع وثيرة العنف بشكل غير مسبوق ومخيف والأكثر من هذا تصاعدي، ودائما تأتي النظرة التقنية الضيقة (رفع عدد رجال الأمن وما يعنيه من رفع التكاليف، نصب الكاميرات في الملاعب، تشديد العقوبات..) كأول الحلول، بعيدا عن معطيات سوسيولوجية وسيكولوجية واقتصادية مجتمعية.
العائق الثالث الغائب في هذا التصور « التقنوي » لبطولة احترافية لكرة القدم هو أنه يجسد نظرة تجزيئية للأمور، فقد أثبتت التجارب الرياضية التاريخية والحالية أنه يستحيل النهوض برياضة واحدة في ظل إهمال باقي الرياضات، وأبسط الأمثلة تأتينا من البرازيل القوية عالميا في عدة رياضات إضافة إلى كرة القدم، مثل الكرة الطائرة وسباق السيارات وألعاب القوى والشطرنج وغيرها، ونفس الشيء يقال عن إنجلترا الرائدة عالميا في ألعاب القوى والريكبي والبولو والألعاب الشتوية والكريكت والشطرنج… وفرنسا وإيطاليا وألمانيا…. حتى الولايات المتحدة التي تراهن على تنمية كرة القدم محدودة الانتشار فيها إبى حدود تسعينيات القرن الماضي، فهي مع ما تتوفر عليه من إمكانيات مادية وبشرية، فإنها لم تحاول حرق المراحل، بل تقود مشروعا واقعيا لتنمية كرة القدم لا يخل بمعادلة الاهتمام بمختلف الرياضات وخصوصا تلك التي تعتبر الولايات المتحدة رائدة فيها على المستوى العالمي، من قبيل ألعاب القوى وكرة السلة والملاكمة والتنس … إضافة للرياضات ذات الطابع المحلي وواسعة الاتنشار بها من قبيل كرة القدم الأمريكية والبايزبول..
مرة أخرى أقول إنه من غير السليم الرهان على رياضة واحدة لتنميتها، بل إن فتح المجال أمام منافسة وطنية بين مختلف الرياضات هو ما يسمح بإبداع وسائل تنمية رياضات معينة تتوفر على شروط التقدم، أما تخصيص كرة القدم بالعناية، فهو تمييز لا يقبله المنطق ولا القانون، وونتائجه غير مضمونة، بل قد تكون معكوسة بفعل المخلفات السلبية التي تتركها على فئة من الناس، من قبيل العنف والشغب، اللذين يستمدان جانبا مهما من وجودهما في النظرة التمييزية لكرة القدم والعناية الإعلامية بها بشكل جعلها تأخذ أكثر من حجمها كرياضة يجب أن تأخذ حجمها الحقيقي من المجتمع وليس من دعم الدولة ووسائل إعلامها، على حساب عدة رياضات يمكنها أن تكون شعبية بأقل التكاليف وترفع راية الوطن عاليا، والأهم من هذا أنها ستسمح لكرة القدم بأن تأخذ حجمها الحقيقي والسليم، عوض حضورها المرضي، باعتبار المرض هو كل ما يخالف طبيعة الأمور، ويعرقل مسيرتها السليمة، ومخلفات كرة القدم بهذا الشكل تستولي على نسبة مهمة من الحقوق المالية لرياضات أخرى وتفرز ظواهر مرضية في مقدمتها العنف والشغب وإهمال عدة واجبات مهنية وأسرية لتتبع مباريات ومناقشات كرة القدم الوطنية والدولية، أحيانا بشكل تبسيطي، وهو ما يترجم إلى ملايين ساعات العمل التي تضيع على وطن في طريق التنمية.
ليكن إذن تصور تنمية كرة القدم الوطنية جزءا من تصور عام لتنمية الرياضة المغربية، ولتكن كفاءات المسيرين في مختلف الأنواع الرياضية ومدى قدرتهم على إقناع مسؤولي الإدارة والمؤسسات التجارية هي المحدد لدعمهم، ولتكن القنوات التلفزية مفتوحة في وجه جميع الأنشطة الوطنية لكل الرياضات بدون استثناء، ولو بتغطية لقطات منها، والسماح بظهور اللوحات الإشهارية لجميع داعميها، غير هذا، فلن تتقدم كرة القدم المغربية، وكل مكسب لها سينتقص منه كل حدث شغب أو عنف أو توقف أندية في وسط الطريق لعجزها عن تلبية متطلبات بطولة احترافية في واقع غير قادر على استيعاب الاحتراف الرياضي.